سمع النبي صلى الله عليه وسلم
- التفاصيل
- التصنيف: بشريته
- تم إنشاءه بتاريخ 16 أيلول/سبتمبر 2013
- كتب بواسطة: محمد أبي الهدى اليعقوبي
- زيارات: 5235
أيها الإخوة المؤمنون.. هلَّ هلال الربيع.. هلَّ هلال شهر الربيع الأول الذي استنار بميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه، فصار يسمى ربيعاً الأنور؛ لأنه أنور الشهور، وإنما تشرف الأيام بشرف ما يحدث فيها، وإنما تشرف الأمكنة بشرف من يحل فيها، فقد شرف الله تبارك وتعالى هذا الشهر وفضله بميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه، وقلوب المؤمنين تهفو مع بداية هذا الشهر إلى الحبيب الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
وأرواح المحبين تحن إلى لقائه صلى الله عليه وسلم ورؤيته وزيارته، وقد جرت سنة العلماء قديماً وحديثاً أن يرجعوا في هذا الشهر إلى حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته، إلى شمائله وسنته، عرضاً وشرحاً، بيناناً وإيضاحاً، ليتم بذلك الاقتداء والاهتداء، ليتم بذلك الاتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الغرض من مولده صلى الله عليه وسلم ومن بعثته وإرساله إنما هو هداية الخلق، وإن الغرض من سنته صلى الله عليه وسلم وحديثه وشريعته إنما هو الاتباع والعمل، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا في هذه الأيام الجميلة على اعتناق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بقولوبنا وأرواحنا، نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على الرجوع إليه صلى الله عليه وسلم بالمحبة، بالتعظيم، بالأدب، بالاقتداء، بالنصرة، لنتحقق بعد ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب21].
أيها الإخوة المؤمنون.. وضعت للأسابيع القادمة نهجاً جديداً إن شاء الله تبارك وتعالى، نتتبع فيه مواضيع من شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم بطريقة مختلفة، سأعرض لحواس المصطفى صلى الله عليه وسلم وأعضائه بالشرح والتفصيل، الوصف حيث يمكن الوصف، والمدح والثناء من الله تبارك وتعالى حيثما وجد أو روي، ثم طريقة الاقتداء والاتباع، وكيف يشكر الإنسان الله تبارك وتعالى على هذه النعمة وعلى هذه الحاسة.
السمع والبصر والذوق والشم واللمس، هي الحواس الخمس الظاهر التي امتن الله تبارك وتعالى علينا بها ووهبنا إياها، وبدونها تنقص أسباب الحياة، وقد جعلها الله تبارك وتعالى كمالاً للإنسان، كمله الله تبارك وتعالى بهذه الحواس، كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين4] هذا التقويم الذي خلق الله تبارك وتعالى الإنسان فيه من جملة أسباب كماله خلق هذه الحواس، كما أخبر سبحانه وتعالى عن إتقانه في كل شيء عندما قال: {..صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل88] ونحن نحتاج إلى معرفة أسباب الطاعة والمعصية بهذه الحواس، كيف يعصى الله تبارك وتعالى أو يطاع بالسمع، كيف يعصى الله تبارك وتعالى أو يطاع بالبصر، كيف يعصى الله تبارك وتعالى أو يطاع باللمس أو الذوق أو الشم، أو كيف يعصى الله تبارك وتعالى أو يطاع أو يشكر أو يكفر بسائر الأعضاء التي وهبنا الله تبارك وتعالى إياها.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل خلق الله، وأفضل خلق الله، حبيب رب العالمين، خاتم النبيين والمرسلين، لا شك ولا ريب، كما أخبر بذلك الصحابة الكرام، كما روي إلينا متواتراً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحسن وأجمل الناس، وكان أكمل الناس، وقد بين الله تبارك وتعالى تمام خلقه وعظم شمائله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم حيث قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم4] فنحتاج إلى معرفة صفته وسلوكه صلى الله عليه وسلم، وماذا صنع بهذه الأعضاء التي وهبه الله تبارك وتعالى إياها، كيف كان يمشي على وجه الأرض، كيف كان عليه الصلاة والسلام يحرك يده، بصره عليه الصلاة والسلام، كيف كانت عيناه تبدوان، ما لون عينيه صلى الله عليه وسلم، وكيف كان ينظر إلى الأشياء.
وقد أحببت أن أبدأ بالسمع، وحديثنا اليوم عن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لشرف هذه الحاسة، لأن الله تبارك وتعالى قدم هذه الحاسة في الذكر في القرآن الكريم على البصر حيثما جاء ذكر السمع والبصر، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الملك23] في معرض الامتنان على بني آدم، وقال تبارك وتعالى في بيان أحوال الكفار، {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة20].
فلماذا تقدم ذكر السمع على ذكر البصر؟ وترتيب القرآن الكريم ترتيب معجز، ومعظم الناس يظن أن البصر أهم من السمع، وأكثر فائدة منه للإنسان، ولكن الحقيقة هي العكس، فالسمع أهم من البصر، وأعظم نفعاً للإنسان، بل ذكر علماء الأجنة أن أول ما يتخلق من الجنين وهو في بطن أمه من الحواس إنما هو السمع، فلذلك قدم الله تبارك وتعالى ذكره، ولولا السمع لما وصلت إلينا آيات كتاب الله تبارك وتعالى المجيد، ولولا السمع لما عرفنا رسالة المرسلين، ولا عرفنا أحكام رب العالمين، ولا عرفنا طريق الوصول إلى الله تبارك وتعالى، ولا سبيل النجاة يوم القيامة.
بل إن السمع جاء في آية من القرآن تدل على أن السمع أخفى في الإنسان من البصر، وتدل على أن حاسة السمع أدق في الإنسان من حاسة البصر، من حيث ارتباط هذه الحواس بأسباب الحياة، ففي قصة أهل الكهف قال الله تبارك وتعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف11] ولم يقل تبارك وتعالى: فضربنا على أبصارهم، مع أن النائم يغمض عينيه عندما ينام، ولكن إغماض العينين يكون أولاً، ثم يأتي بعد ذلك كف السمع، فمن نام وأغمض عينيه لا بد أن يسمع الأصوات الخفية إلى أن يغط بعد ذلك في النوم العميق، فعند ذلك يذهب عنه السمع، فلا يسمع الأصوات الخافتة من حوله، فأولاً يذهب بصر الإنسان، ثم بعد ذلك يذهب سمعه عند النوم، وذهاب البصر لا يعني ذهاب السمع، فلذلك جاءت البلاغة هنا في وصف أحوال أهل الكهف، وكيف غطوا في نوم عميق، فقال تبارك وتعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً).
رأس النبي عليه الصلاة والسلام -كما وصف لنا- كان رأساً عظيماً، جاء في صفة رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم: (كان عظيم الهامة) والهامة هي الرأس، وعِظَم الرأس مما يستدل به على الذكاء، لأن الرأس موضع الدماغ، والدماغ موضع العقل، كما ذهب إلى ذلك جماعة من العلماء، أي موضع الحواس الباطنة، كالإدراك والتمثيل والحفظ والتصوير.. والأذنان كما جاء في حديث صحيح أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما -بل هو حديث متواتر- يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الأذنان من الرأس)، وهذا الحديث يشير إلى معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بعلم التشريح، أحد فروع علم الطب، أو علم وظائف الأعضاء، جاء الحديث في معرض بيان ما يجب غسله من الوجه وما لا يجب غسله، هل يجب غسل الأذنين مع الوجه عند الوضوء أو لا يجب، فالنبي عليه الصلاة والسلام أراد بيان الحكم فقال: (الأذنان من الرأس) فبين بذلك أن غسل الوجه عند الوضوء يجب من شحمة هذه الأذن إلى شحمة هذه الأذن، هذا هو الوجه الذي يواجه به الإنسان، ومن منبت الشعر المعتاد إلى أسفل الذقن هذا هو الوجه، والأذنان ليستا من الوجه، إنما هما من الرأس، فالحديث في أحكام الوضوء، لكنه جاء أصلاً في بيان وظيفة كل عضو وموضعه وماذا يتبع، وقد أثبت علم التشريح الحديث أن الأذنين من الرأس، وأنهما يتبعان الرأس ولا يتبعان الوجه في سائر الأعضاء.
ويستنبط من هذا الحديث أيضاً في هذا العصر حِكَم وأحكام تتعلق بجواز عمليات التجميل أو عدم جوازها مما رأيت الحديث يدل عليه، فإنه يجوز بعض عمليات التجميل في بعض الأحيان لمن خرجت في وجهه -مثلاً- ندبة ظاهرة، أو خرجت في وجهه -مثلاً- دُمَّل عظيم، قد يجوز له أن يصنع شيئاً مما يذهب بهذا، غير عمليات شد الوجه التي لاتجوز، مما يصنعه الممثلون والمغنون والمشاهير ورجال السياسة في دول العالم، هذا مما لا يجوز، لكن لو ظهر في وجه الإنسان شيء يشير إلى قبحه -مثلاً- كدمل لم يكن في أصل خلقته، جاز له أن يذهب به، وأن يسويه بعملية من عمليات التجميل، لكن لو ظهر ذلك بأذنيه لم يجز له ذلك؛ لأن الأذنين الأصل فيهما التغطية، وتغطية الرأس عند العرب من المكارم، من مكارم الأخلاق والفضائل، وكانوا يلبسون العمائم، والعمائم المحنكة هي التي تغطي الرأس وجوانب الرأس معاً، فتغطي الأذنين، وكانت العرب تعرف اللثام وتتلثم، وهو أحد الأجوبة التي تقال في معرض الرد على من يقول: إن المرأة تتحجب والرجل لا يتحجب، أقول: الحجاب للرجل من مكارم الأخلاق، وأنا هنا أتجاوز المصطلحات، لأن العرب كانت تكثر من اللثام، وتعرفون الأبيات التي استشهد بها الحجاج لما صعد المنبر في الكوفة وقال:
أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا***متى أضعِ العمامةَ تعرفوني
ومراده بذلك هذه العمامة المحنكة التي تدور حول الحنك وتغطي الوجه، لأنهم لم يعرفوه لأنه كان يغطي وجهه، على أن بعض العلماء قال: يجب على الرجل تغطية وجهه إن كان فيه فتنة للنساء، وتعرفون بعض القصص في الأدب العربي وأخبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، من ذلك قصة نصر بن الحجاج الذي نفاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة المنورة، لأنه كان يفتن النساء، وكانت النساء تخرج للطرقات للنظر إليه.
جاء في صفة رأسه صلى الله عليه وسلم العِظَم، وجاء في صفة أعضائه اللطف، فأذناه كانتا لطيفتين صلى الله عليه وسلم، ولكن الغرض من الأذنين إنما هو السمع، والإنسان لا يشرف بمجرد العضو إلا إذا عرف ما يستخدمه فيه، وعرف قوته فيه، فلا تعرف قوة العينين إلا بقوة الإبصار، ولا تعرف قوة الأذنين إلا بقوة السمع، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان أدق السمع، أعطي النبي صلى الله عليه وسلم الكمال في كل حاسة من الحواس، بالأحاديث الصحاح الواردة في كتب السنن، وسنأتي على صفة بصره عليه الصلاة والسلام، والمدى الذي كان يرى فيه، والجهات التي كان يرى منها عليه الصلاة والسلام، ولكننا نحب أن نشير في هذا الموضوع إلى حديثين وردا في صفة سمع النبي صلى الله عليه وسلم:
الحديث الأول: أخرجه الترمذي والإمام أحمد وابن ماجه وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه عن سيدنا أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجد لله تعالى) الأطيط: صوت الرحل، أطت أي: صوتت، سمع النبي عليه الصلاة والسلام أطيط السماء لازدحام الملائكة على السجود لله تبارك وتعالى.
والحديث الآخر: أخرجه أبو نعيم في الحلية عن سيدنا حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء) الفرق بين سمع سائر الناس وسمع النبي عليه الصلاة والسلام، في الحديث الأول يثبت النبي عليه الصلاة والسلام لنفسه السمع الدقيق فيقول: (إني أرى ما لا ترون، وإني أسمع ما لا تسمعون) وفي هذا الحديث المقارنة بين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وسمع أصحابه من حوله، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم). بعض العلماء كابن الأثير قال: أطيط السماء هنا مجاز، لكن رد عليه العلماء وقالوا: كلام النبي عليه الصلاة والسلام فيه السماع، قال: (إني لأسمع) والسماع لايكون إلا بالأصوات، ولا يجوز التأويل في مثل هذا الموضع.
فنستدل بذلك على دقة سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إشارة -أيها الإخوة- إلى وجه من وجوه كماله صلى الله عليه وسلم، الكمال في الخِلقة والكمال في الخُلُق، كمَّل الله تبارك وتعالى جسمه في الخَلق، وكمل الله تبارك وتعالى شمائله وصفاته في الخُلُق، فجعله أفضل العالمين، وجعله خير النبيين، وجعله أجمل خلق الله أجمعين.
ومن أجمل أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته التي جاءت الإشارة إليها في القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى في بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم والرد على المنافقين: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون هو يسمع كلام أصحابه، فرد الله تبارك وتعالى عن ذلك وأجاب عن نبيه ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تبارك وتعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) هذا من البلاغة في الكلام، إذا كان الرجل يسمع بإنصات شديد تقول: هو أذن، وإذا كان يبصر بتدقيق وتمحيص، تقول: هو عين، أي صار كله عيناً، صار كله أذناً، من باب تسمية الكل باسم الجزء، وهذا من أبواب المجاز، وهو من أبواب البلاغة والفصاحة عند العرب.
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة61] تعالوا بنا نقف عند هذه الآية، (يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم) أذن خير لكم لأنه يحسن الاستماع، وهبه الله تبارك وتعالى السمع، وأعطاه الأذنين، فأحسن استماع الأصوات، وأحسن تخير الكلام الذي يستمع إليه، وأحسن الإنصات إلى الخير والهدى، قل أذن خير لكم، ترى هل نستطيع أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون كل واحد منا أذن خير للمسلمين؟ لا يسمع إلا حقاً، لا ينصت إلا إلى خير؟.
أيها الأخ المؤمن إذا جلس بين يديك رجل وأراد أن يقص عليك خبراً تعلم أنه كذب اقطعه، وقل: لا أريد أن أستمع، إذا جلست إلى بعض الناس، وابتدأ أحاديث الغيبة، يتحدث عن زيد من الناس بما فيه، أو ابتدأ الافتراء والبهتان فيتحدث عن زيد بما ليس فيه، فأوقفه، قل: لا أريد أن أستمع، فالأذن نعمة من الله تبارك وتعالى، والسمع حاسة شريفة من أشرف الحواس، ينبغي أن يستمع الإنسان بها إلى الخير، يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف204]، استمعوا للقرآن، استمعوا للذكر، استمعوا للطاعة، استمعوا للعلم، استمعوا للسنة، لكن لا تستمع للباطل، لا تستمع للفتنة، لا تستمع للغيبة والنميمة، بعض أدباء العرب يقول:
أُحِبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُه***كأنَّ بهِ عن كلِّ فاحشةٍ وَقْرا
يعني سمعه للخير، وهو أصم أمام الباطل، أصم أمام الكذب، لا يستمع إلى الكذب، فهو أصم عند الكذب.
سليمَ دواعي الصدرِ لا باسطاً أذىً***ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هُجْرا
من أجمل ما روي من الأحاديث -أيها الإخوة- حديث يغفل عنه الناس، ولا يكادون يستشهدون به، ونحن في أمس الحاجة لتطبيقه في هذا العصر، وهو وإن كان من الأحاديث الضعيفة من حيث الإسناد، إلا أن العمل به في فضائل الأعمال مباح جائز بل مندوب، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه الخطيب البغدادي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه: (إسماعُ الأصمِّ صدقةٌ) أن تُسْمِع الأصم، هل يسمعُ الأصمُّ؟ نعم، يسمع شيئاً ما، لأن الأصم ليس الذي ذهب سمعه بالكلية، عند العرب أخف أنواع الصمم: الوَقر {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الكهف57]، ثم بعد ذلك: الصَّمَم، وأشد منه: الطَّرَش، وأشد الأشياء الذي يذهب معه السمع كله هو: الصَّلَخ، وهي: كلمةٌ من غرائب الكَلِم في اللغة العربية، فالأصم يسمع السمع القليل، برفع الصوت والاقتراب منه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إسماع الأصم صدقة) وهذا باب تفتح فيه لغة الإشارة لإسماع الصم، وتعليم الصم والبكم ما لا يستطيعون سماعه، وهذا باب طاعة وخير، وهو من فضائل الأعمال، فإذا رأيت رجلاًً أصم فأعنه على طلب العلم، وأعنه على سماع الحق والهدى والخير، إما بالاقتراب منه إن كان يسمع قليلاً، أو بالإشارة إليه، أو بوضع الخط بين يديه، وهذه من الأمور التي ضيعها المسلمون لعقود طويلة، بل لقرون طويلة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل سمعنا وبصرنا وحواسنا جميعاً في طاعته، نسأله سبحانه وتعالى ما سأله النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وعقولنا وقوتنا ما أحييتنا. نسأله ما سأله النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم اجعل في أبصارنا نوراً، وفي أسماعنا نوراً، وفي قلوبنا نوراً، اللهم اجعل عن أيماننا نوراً، وعن شمائلنا نوراً، ومن أمامنا نوراً، ومن خلفنا نوراً، ومن فوقنا نوراً، ومن تحتنا نوراً، واجعلنا نوراً، وأعظم لنا نوراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين...
من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ محمد اليعقوبي بتاريخ 3/ربيع الأول/1430هـ الموافق لـ 27/شباط/2009م